سورة الفرقان - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة فقوله: {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك} أي من الله ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة وفسر ذلك الخير بقوله: {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه، ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم، ويسد عليه أبواب الدنيا، وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: خير من ذلك مما عيروك بفقده الجنة، لأنهم عيروك بفقد الجنة الواحدة وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة، وقال في رواية عكرمة: {خَيْراً مّن ذلك} أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش.
المسألة الثانية: قوله: {إِن شَاء} معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى، وقال قوم: {إن} هاهنا بمعنى إذا، أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصوراً وإنما أدخل إن تنبيهاً للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته، وأنه معلق على محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة.
المسألة الثالثة: القصور جماعة قصر وهو المسكن الرفيع ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومتنزهاً، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة.
وقال مجاهد: إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا.
المسألة الرابعة: اختلف الفراء في قوله: {وَيَجْعَلَ} فرفع ابن كثير وابن عامر وعاصم اللام وجزمه الآخرون، فمن جزم فلأن المعنى إن شاء يجعل لك جنات ويجعل لك قصوراً ومن رفع فعلى الاستئناف والمعنى سيجعل لك قصوراً، هذا قول الزجاج: قال الواحدي وبين القراءتين فرق في المعنى، فمن جزم فالمعنى إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ولا يحسن الوقوف على الأنهار، ومن رفع حسن له الوقوف على الأنهار، واستأنف أي ويجعل لك قصوراً في الآخرة. وفي مصحف أبي وابن مسعود: (تبارك الذي إن شاء يجعل).
المسألة الخامسة: عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحداً قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً، فقال عليه السلام: «بل يجمعها جميعاً لي في الآخرة»، فنزل قوله: {تبارك الذي إن شاء} الآية، وعن ابن عباس قال عليه السلام: «عرض عليَّ جبريل بطحاء مكة ذهباً فقلت بل شبعة وثلاث جوعات» وذلك أكثر لذكري ومسألتي لربي، وفي رواية صفوان بن سليم عن عبد الوهاب قال عليه السلام: «أشبع يوماً وأجوع ثلاثاً، فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت» وعن الضحاك لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فنزل جبريل عليه السلام معزياً له، وقال إن الله يقرؤك السلام ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام} [الفرقان: 20] الآية، قال فبينما جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم يتحدثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، ثم قال أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك فسلم عليه وقال إن ربك يخيرك بين أن تكون نبياً ملكاً وبين أن تكون نبياً عبداً ومعه سفط من نور يتلألأ ثم قال هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك الله مما أعد لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نبياً عبداً قال فكان عليه السلام بعد ذلك لم يأكل متكئاً حتى فارق الدنيا.
أما قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} فهذا جواب ثالث عن تلك الشبهة كأنه سبحانه قال ليس ما تعلقوا به شبهة عيلمة في نفس المسألة، بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها، ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يكذبون بالساعة فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً ولا يتحملون كلفة النظر والفكر، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل، ثم قال: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم: {وَأَعْتَدْنَا} أي جعلناها عتيداً ومعدة لهم، والسعير النار الشديدة الاستعار، وعن الحسن أنه اسم من أسماء جهنم.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية وهي قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} وقوله: {أَعْتَدْنَا} إخبار عن فعل وقع في الماضي، فدلت الآية على أن دار العقاب مخلوقة قال الجبائي يحتمل وأعتدنا النار في الدنيا وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ويحتمل نار الآخرة ويكون معنى {وَأَعْتَدْنَا} أي سنعدها لهم كقوله: {وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44] واعلم أن هذا السؤال في نهاية السقوط لأن المراد من السعير، إما نار الدنيا وإما نار الآخرة، فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا أو يعذبهم في الآخرة بنار الدنيا، والأول باطل لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا، والتالي أيضاً باطل لأنه لم يقل أحد من الأمة أنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا، فثبت أن المراد نار الآخرة وثبت أنها معدة، وحمل الآية على أن الله سيجعلها معدة ترك للظاهر من غير دليل، وعلى أن الحسن قال السعير اسم من أسماء جهنم فقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} صريح في أنه تعالى أعد جهنم.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن السعيد من سعد في بطن أمه فقالوا إن الذين أعد الله تعالى لهم السعير وأخبر عن ذلك وحكم به أن صاروا مؤمنين من أهل الثواب انقلب حكم الله بكونهم من أهل السعير كذباً وانقلب بذلك علمه جهلاً، وهذا الانقلاب محال والمؤدي إلى المحال محال فصيرورة أولئك مؤمنين من أهل الثواب محال، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً، والشقي لا ينقلب سعيداً، ثم إنه سبحانه وتعالى وصف السعير بصفات إحداها قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} وفيه مسائل:


المسألة الأولى: السعير مذكر ولكن جاء هاهنا مؤنثاً لأنه تعالى قال: {رَأَتْهُمْ} وقال: {سَمِعُواْ لَهَا} وإنما جاء مؤنثاً على معنى النار.
المسألة الثانية: مذهب أصحابنا أن البنية ليست شرطاً في الحياة، فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها، وعند المعتزلة ذلك غير جائز، وهؤلاء المعتزلة ليس لهم في هذا الباب حجة إلا استقراء العادات، ولو صدق ذلك لوجب التكذيب بانخراق العادات في حق الرسل، فهؤلاء قولهم متناقض، بل إنكار العادات لا يليق إلا بأصول الفلاسفة، فعلى هذا قال أصحابنا قول الله تعالى في صفة النار: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} يجب إجراؤه على الظاهر، لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار، أما المعتزلة فقد احتاجوا إلى التأويل وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم دورهم تتراءى وتتناظر، وقال عليه السلام: «إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك، ويقال دور فلان متناظرة، أي متقابلة.
وثانيها: أن النار لشدة اضطرامها وغليانها صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم.
وثالثها: قال الجبائي: إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار فهو كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أراد أهلها.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعاً، فكيف قال الله تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}؟ والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن التغيظ وإن لم يسمع فإنه قد يسمع ما يدل عليه من الصوت وهو كقوله: رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما يدل عليه، وكذلك يقال في المحبة فكذا هاهنا، والمعنى سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ وهو قول الزجاج.
وثانيها: المعنى علموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً وهذا قول قطرب، وهو كقول الشاعر: مقلداً سيفاً ورمحاً.
وثالثها: المراد تغيظ الخزنة.
المسألة الرابعة: قال عبيد بن عمير: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا وترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام يجثو على ركبتيه ويقول نفسي نفسي.
الصفة الثانية للسعير: قوله تعالى: {وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} واعلم أن الله سبحانه لما وصف حال الكفار حينما يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها، نعوذ بالله منه بما لا شيء أبلغ منه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في {ضَيّقاً} قراءتان التشديد والتخفيف وهو قراءة ابن كثير.
المسألة الثانية: نقل في تفسير الضيق أمور، قال قتادة: ذكر لنا عبدالله بن عمر قال: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» قال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهيب، والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة، قال صاحب الكشاف: الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث: «إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» ولقد جمع الله على أهل النار أنواع (البلاء حيث ضم إلى العذاب الشديد الضيق).
المسألة الثالثة: قالوا في تفسير قوله تعالى: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} إن أهل النار مع ما هم فيه من العذاب الشديد والضيق الشديد، يكونون مقرنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم وقيل يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة، وفي أرجلهم الأصفاد، ثم إنه سبحانه حكى عن أهل النار أنهم حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا ثبوراً، والثبور الهلاك، ودعاؤهم أن يقولوا واثبوراه، أي يقولوا يا ثبور هذا حينك وزمانك، وروى أنس مرفوعاً: «أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على جانبيه ويسحبها من خلفه ذريته وهو يقول يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يردوا النار».
أما قوله: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} أي يقال لهم ذلك، وهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثم قول، ومعنى {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً}، أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحداً، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان لكل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، أو لأن ذلك العذاب دائم خالص عن الشوب فلهم في كل وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور، أو لأنهم ربما يجدون بسبب ذلك القول نوعاً من الخفة، فإن المعذب إذا صاحب وبكى وجد بسببه نوعاً من الخفة فيزجرون عن ذلك، ويخبرون بأن هذا الثبور سيزداد كل يوم ليزداد حزنهم وغمهم نعوذ بالله منه، قال الكلبي نزل هذا كله في حق أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات.


{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة، فقال لرسوله: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة، فإن قيل: كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر؟ قلنا هذا يحسن في معرض التفريع، كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً، ويقول على سبيل التوبيخ: هذا أطيب أم ذاك؟
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بقوله: {وُعِدَ المتقون} على أن الثواب غير واجب على الله تعالى، لأن من قال السلطان وعد فلاناً أن يعطيه كذا، فإنه يحمل ذلك على التفضيل، فأما لو كان ذلك الإعطاء واجباً لا يقال إنه وعده به، أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضاً على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد إنما حصل معللاً بصفة التقوى، والتفضيل غير مختص بالمتقين فوجب أن يكون المختص بهم واجباً.
المسألة الثالثة: قال أبو مسلم: جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء، كالشكر والشكور قال الله تعالى: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان: 9] فإن قيل: الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله: {جَنَّةُ الخلد}؟ قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال، كما يقال الله الخالق البارئ، وما هنا من هذا الباب.
أما قوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين:
الأول: أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق، فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء، والثاني: لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله: {جَزَاء} وبين قوله: {مَصِيراً} تفاوت فيصير ذلك تكراراً من غير فائدة.
قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه {جَزَاء}، إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق، وليس في الآية ما يدل على التعيين.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين:
الأول: أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقاً للثواب، لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر، والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع، والجمع بينهما محال، وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه، فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول: لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة، وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة، إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، لأنه تعالى قال: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً} فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقاً لهم، وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز، ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال: المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة؟ فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها، الوجه الثاني: قالوا: المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر، وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمناً أم لا، لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقياً، ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيراً وهذا للحصر، والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم، وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة، قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً، لكنها بعد ما صارت كذلك، فلم قال الله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً}؟ جوابه من وجهين:
الأول: أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني: أنه كان مكتوباً في اللوح قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم.
أما قوله تعالى: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خالدين} فهو نظير قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31] وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لابد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم، فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} وأيضاً فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلابد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه، فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} وفي قوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} وجوابه: أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلاً عن الالتفات إلى حال غيره.
المسألة الثانية: شرط نعيم الجنة أن يكون دائماً، إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي:
أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خالدين}.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك، بل لابد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات، ولذلك قال عليه السلام: «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق»، فقيل وما هو يا رسول الله؟ فقال: «سرور يوم».
أما قوله: {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: كلمة (على) للوجوب قال عليه السلام: «من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى» فقوله: {كَانَ على رَبِّكَ} يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى، والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم، أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعاً، فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالاً، لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال، ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالاً والمحال غير مقدور، فلم يكن الله تعالى قادراً على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل، وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعاً يكون القول بالإلجاء لازماً، فلم يكن الله قادراً، فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد، فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذباً وعلمه جهلاً وذلك محال، والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً، ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح، تمام السؤال وجوابه: أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله، فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء، فكان قادراً ومستحقاً للثناء والمدح.
المسألة الثانية: قوله: {وَعْداً} يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره.
المسألة الثالثة: قوله: {مَسْؤُولاً} ذكروا فيه وجوهاً أحدها: أن المكلفين سألوه بقولهم: {رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194].
وثانيها: أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة *** سكوتي كلام عندها وخطاب
وثالثها: الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ} [غافر: 8].
ورابعها: {وَعْداً مَسْؤُولاً} أي واجباً، يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً وإن لم تسأل، قال الفراء. وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة، وما قاله الفراء مجاز.
وخامسها: مسؤولاً أي من حقه أن يكون مسؤولاً لأنه حق واجب، إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.


{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}
اعلم أن قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} راجع إلى قوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} [الفرقان: 3] ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: {يَحْشُرُهُمْ} فنقول كلاهما بالنون والياء وقرئ {نَحْشُرُهُمْ} بكسر الشين.
المسألة الثانية: ظاهر قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} أنها الأصنام، وظاهر قوله: {فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى} أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما، لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا، فمن الناس من حمله على الأوثان، فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى، وكيف قدر على الجواب؟ فعند ذلك ذكروا وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة، فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب.
وثانيها: أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل، وكما قيل: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً! وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام، قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] وإذا قيل لهم: لفظة (ما) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين:
الأول: لا نسلم أن كلمة (ما) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا (من) لما لا يعقل والثاني: أريد به الوصف كأنه قيل (ومعبودهم)، وقوله تعالى: {والسماء وَمَا بناها} [الشمس: 5] {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين، وكيف كان فالسؤال ساقط.
المسألة الثالثة: حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين، ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ قالت المعتزلة: وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا هاهنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضللتهم، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم، علمنا أن الله تعالى لا يضل أحداً من عباده.
فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه، فإنهم قالوا: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر} وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا.
قلنا: لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوباً في يد أولئك المعبودين، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملزماً هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية، أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى، وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى، وعند لذلك يعود السؤال، وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا.
المسألة الرابعة: ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى. بقي على الآية سؤالات.
الأول: ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟
الجواب: ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن فاعله فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
السؤال الثاني: أنه سبحانه كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟
الجواب: هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم، وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم.
السؤال الثالث: قال تعالى: {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} والقياس أن يقال ضل عن السبيل، الجواب: الأصل ذلك، إلا أن الإنسان إذا كان متناهياً في التفريط وقلة الاحتياط، يقال ضل السبيل.
أما قوله: {سبحانك} فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم، وفي قوله: {سبحانك} وجوه:
أحدها: أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه.
وثانيها: أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون (المقدسون المؤمنون) بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده.
وثالثها: قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، سواء كان وثناً أو نبياً أو ملكاً.
ورابعها: قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئاً عن الجرم، بل إنه إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم.
أما قوله: {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: القراءة المعروفة {أَن نَّتَّخِذَ} بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، قال الزجاج أخطأ من قرأ {أَن نَّتَّخِذَ} بضم النون لأن (من) إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولاً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد ولياً، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من ولي، قال صاحب الكشاف اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ ولياً، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلاناً ولياً، قال الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} [النساء: 125] والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو {مِنْ أَوْلِيَاء}، والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين، فالأول ما بني له الفعل، والثاني {مِنْ أَوْلِيَاء} من للتبعيض، أي لا نتخذ بعض أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً: أولها: وهو الأصح الأقوى، أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك.
وثانيها: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار، قال تعالى: {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} [النساء: 76] يريد الكفرة، وقال: {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] عن أبي مسلم.
وثالثها: ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء، أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه، والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
ورابعها: قالت الملائكة إنهم عبيدك، فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً، فضلاً عن أن يتخذ عبد عبداً آخر إلهاً لنفسه.
وخامسها: أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل، فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء، قلنا: المراد إنا لا نصلح لذلك، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا.
وسادسها: أن هذا قول الأصنام، وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين، فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله، فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع.
أما قوله تعالى: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا، فإنه لولا عنادهم الظاهر، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله: {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] وذلك لأن المجيب قال: إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات، واستغراقه فيها صار صاداً له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك، فإن هي إلا فتنتك.
المسألة الثانية: الذكر ذكر الله والإيمان به (و) القرآن والشرائع، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة.
المسألة الثالثة: قال أبو عبيدة: يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور، وكذلك الأنثى، ومعناه هالك، وقد يقال رجل بائر وقوم بور، وهو مثل هائر وهور، والبوار الهلاك، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر، ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك، فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه، لو صار مؤمناً لصار الخبر الصدق كذباً، ولصار العلم جهلاً ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة، ولصار اعتقاد الملائكة جهلاً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقياً، والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيداً، ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها، ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغاً يوجب البوار، فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب، فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر، وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقياً، وأن الشقي لا ينقلب سعيداً.
أما قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} فاعلم أنه قرئ {يَقُولُونَ} بالياء والتاء، فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة، أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة، ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت، فالمعنى أنهم كذبوكم (بقولكم) {سبحانك}، ومثاله قولك كتبت بالقلم.
أما قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} فاعلم أنه قرئ {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء والتاء أيضاً، يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم، وقيل الصرف التوبة، وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف، أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب (و) أن يحتالوا لكم.
أما قوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرئ {يذقه} بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير (الظلم).
المسألة الثانية: أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر، فقالوا ثبت أن (من) للعموم في معرض الشرط، وثبت أن الكافر ظالم لقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والفاسق ظالم لقوله: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} [الحجرات: 11] فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه، بل يعذب لا محالة والجواب: أنا لا نسلم أن كلمة (من) في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم ولكن قطعاً أم ظاهراً؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم، مع أن المراد هو الأكثر، أو لأن المراد أقوام معينون، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله: {الذين كَفَرُواْ} وإن كان يفيد العموم، لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون، وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر، وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو.
سلمنا دلالته قطعاً، ولكنا أجمعنا على أن قوله: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} مشروط بأن لا يوجد ما يزيله، وعند هذا نقول هذا مسلم، لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله، وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال، ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً} [الكهف: 107] فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقاً للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل، فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال.
قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل، ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة، نزلنا عن هذه المقامات، ولكن قوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم؟
أما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا جواب عن قولهم: {مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِي الأسواق} [الفرقان: 7] بين الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن.
المسألة الثانية: حق الكلام أن يقال: {أَلاَ أَنَّهُمْ} بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء، فلأجل هذا ذكروا وجوهاً: أحدها: قال الزجاج: الجملة بعد (إلا) صفة لموصوف محذوف، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف لأن في قوله: {مِنَ المرسلين} دليلاً عليه، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] على معنى وما منا أحد.
وثانيها: قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله: {مِنَ المرسلين} عنه، والمعنى إلا من أنهم كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أي من له مقام معلوم، وكذلك قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي إلا من يردها فعلى قول الزجاج: الموصوف محذوف، وعلى قول الفراء: الموصول هو المحذوف، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين.
وثالثها: قال ابن الأنباري: تكسر إن بعد الاستثناء بإضمار واو على تقدير إلا وإنهم.
ورابعها: قال بعضهم المعنى إلا قيل إنهم.
المسألة الثالثة: قرئ {يَمْشُونَ} على البناء للمفعول أي تمشيهم حوائجهم أو الناس، ولو قرئ {يَمْشُونَ} لكان أوجه لولا الرواية.
أما قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه أقوال: أحدها: أن هذا في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة، فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه، ودليله قوله تعالى: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] وهذا قول الكلبي والفراء والزجاج.
وثانيها: أن هذا عام في جميع الناس، روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، وويل للمالك من المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية.
وثالثها: أن هذا في أصحاب البلاء والعافية، هذا يقول لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق وفي العقل وفي العلم وفي الرزق وفي الأجل؟ وهذا قول ابن عباس والحسن.
ورابعها: هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها، فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وأنواع أذاهم على ما قال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} [آل عمران: 186] والمرسل إليهم يتأذون أيضاً من المرسل بسبب الحسد وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً، والأولى حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدراً مشتركاً.
المسألة الثانية: قال أصحابنا الآية تدل على القضاء والقدر لأنه تعالى قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} قال الجبائي هذا الجعل هو بمعنى التعريف كما يقال فيمن سرق، إن فلاناً لص جعله لصاً، وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى أضاف الجعل إلى وصف كونه فتنة لا إلى الحكم بكونه كذلك، بل العقل يدل على أن المراد غير ما ذكره وذلك لأن فاعل السبب فاعل للمسبب، فمن خلقه الله تعالى على مزاج الصفراء والحرارة وخلق الغضب فيه ثم خلق فيه الإدراك الذي يطلعه على الشيء المغضب فمن فعل هذا المجموع كان هو الفاعل للغضب لا محالة، وكذا القول في الحسد وسائر الأخلاق والأفعال، وعند هذا يظهر أنه سبحانه هو الذي جعل البعض فتنة للبعض. سلمنا أن المراد ما قاله الجبائي أن المراد من الجعل هو الحكم ولكن المجعول إن انقلب لزم انقلابه انقلاب حكم الله تعالى من الصدق إلى الكذب وذلك محال، فانقلاب ذلك الجعل محال، فانقلاب المجعول أيضاً محال، وعند ذلك يظهر القول بالقضاء والقدر.
المسألة الثالثة: الوجه في تعلق هذه الآية بما قبلها أن القوم لما طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأنه فقير كانت هذه الكلمات جارية مجرى الخرافات، فإنه لما قامت الدلالة على النبوة لم يكن لشيء من هذه الأشياء أثر في القدح فيها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذى منهم من حيث إنهم كانوا يشتمونه، ومن حيث إنهم كانوا يذكرون الكلام المعوج الفاسد وما كانوا يفهمون الجواب الجيد، فلا جرم صبره الله تعالى على كل تلك الأذية، وبين أنه جعل الخلق بعضهم فتنة للبعض.
أما قوله تعالى: {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة لو كان المراد من قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} الخبر لما ذكر عقيبه {أَتَصْبِرُونَ} لأن أمر العاجز غير جائز.
المسألة الثانية: المعنى أتصبرون على البلاء فقد علمتم ما وعد الله الصابرين {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي هو العالم بمن يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.
المسألة الثالثة: قوله: {أَتَصْبِرُونَ} استفهام والمراد منه التقرير وموقعه بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله: {لنبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8